أن القول (قول القلب واللسان) وحده ليس كاف في دخول الجنة، بل لا بد من العمل ( عمل القلب والجوارح)..
وهذا قول السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين..
ونحن نعتقد اعتقادا جازما أن ما قاله السلف الذين هم أتباع وأصحاب النبي هو الصواب، لكن السؤال هنا:
كيف نجيب عن الحديث الآنف، الذي يصرح بأن النطق بلا إله إلا الله يدخل الجنة؟..
الجواب:
قيل: إن ذلك كان قبل نزول الفرائض، في أوائل الدعوة في مكة..
وقيل: هو في حق من قالها فمات بعدها موقنا بها..
وكان في هذا الجواب رد على المرجئة، غير أنه لا يعني أن السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجردا عن العمل، مقتصرا على تصديق القلب واللسان..
فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بالواجب الثقيل الذي تلقاه المؤمنون الأولون قبل نزول الفرائض..
إن شهادة التوحيد في أول الدعوة لم تكن كلمة تقال باللسان فحسب، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي وقت من الأوقات، وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية التي واجهها الصحابة الأولون وما موجبها؟..
إنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة، ومعلما فاصلا بين حياتين لا رابطة بينهما، حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزم ذلك من فرائض ومشقات أعظم من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها، من ذلك:
فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها..
ومن ذلك:
الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار، ولو كانوا آباء أو إخوانا أو أزواجا أو عشيرة..
ومن ذلك:
فريضة الصبر على الأذى في الله، التي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة حمل الواجبات الثقيلة..
وهذا ونحوه هو ما كان يعانيه بلال وهو يسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال..
وما كان يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعا، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسا نفسا حتى تهلك لما رجع عن دينه..
وما كان آل ياسر يلقونه من عذاب وغيرهم..
إن في إمكان الإنسان أن يصلى ما شاء وينفق ما شاء دون أن يناله كبير مشقة، ولكن:
أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالا، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟..
أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به حد الإدمان؟..
فما بالنا إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو منابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيم جاهلية وشريعة جاهلية، ثم هو مع ذلك زجر للنفس وقطع لشهواتها ومراقبة شديدة لها؟.
أليس في كل هذا عمل يزيد على مجرد التصديق والنطق؟.
ولذا رأينا نماذج كثيرة خلاف تلك النماذج التي ضربت صورا رائعة للصبر على الأذى، فور نطقها بالشهادة ترجع إلى بيتها لتحطم الأصنام وتقطع العلائق بكل وثن كانت تعبده، وتتهيأ لحمل ما يرد عليها من أوامر إلهية.
فلم يكن الأمر أذن مجرد نطق ولو كان معه تصديق..
حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور الإيمان بدون عمل، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة..
وإلا لم كان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم؟..
ألمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية لا تعدو الأذهان؟..
إن كل إنسان كان يسلم في تلك الفترة كان يعلم أن نطقه بالشهادة توجب عليه الانخلاع من كل عبادة والإقبال على عبادة الله وحده، وذلك وحده فيه من العمل والصبر الشيء الكثير، خاصة في تلك الظروف التي كان فيها الإسلام ناشئا، وليس للمسلمين سند ولا قوة ولا أرض ولا دولة..
نعم لم تشرع الفرائض حينذاك، لكن البذل كان أكثر بكثير من مجرد الصلاة والصيام والحج والزكاة، إنهم كانوا مأمورين بالتسليم لله تعالى، وقبول ما يأتي عنه، والقيام بهذا الدين وحمله وتبليغه إلى البشر، وكفى بذلك حملا ثقيلا وعملا خطيرا..